فصل الكلام بما يخص الدول الاسكندنافية في مدة الصيام
أيمن الشعبان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرفنا بالقرآن، واختصنا بشهر رمضان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
في مثل هذه الأيام ونحن نقترب من شهر الخير والبركة والتوبة والصبر والقرآن والعطاء والجهاد والحسنات، يستعد المسلمون لاستقباله ضيفا عزيزا وزائرا كريما، وكلٌ بحسب فهمه وإدراكه لحقيقة هذا الشهر، والفائز من اغتنم أوقاته بالطاعات، وترك الدنيا وما فيها من ملذات وملهيات.
ولما كان الصيام من أركان ديننا العظيم، الذي ينبغي علينا إتقانه وتأديته على الوجه الصحيح وبشكل تام، فقد توارد إلينا استفهام واستفسار من بعض الأخوة الأعزاء الحريصين على دينهم، والمتواجدين في بعض الدول الأوربية وتحديدا بالدول الاسكندنافية، حيث أرسل إلينا أحدهم من فنلندا وآخر من السويد مطالبين بتوضيح الحكم الشرعي لمدة الصيام هناك لأن النهار طويل جدا قد يصل – لاسيما في هذه الأيام – إلى 21 ساعة ، فما هو الحكم في ذلك؟ وكيف يصنع المسلمون هناك في مثل هذه الحالات؟
نقول وبالله نستعين إن الله تبارك وتعالى لم يتركنا هكذا من غير بيان، بل بين لنا كل ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، قال تعالى } وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ {[1] ، في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جلية [2].
ومن الأشياء التي بينها ربنا تبارك وتعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام؛ وقت الإمساك عن الطعام وسائر المفطرات في الصيام، وكذلك وقت الإفطار، قال تعالى } وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ { [3]، { وَكُلُواْ واشربوا } الليل كله { حتى يَتَبَيَّنَ } أي يظهر { لَكُمُ الخيط الابيض } وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره [4].
لذلك فإن وقت بداية الإمساك عن سائر المفطرات والبدء بالصيام هو طلوع الفجر الصادق ودخول وقت صلاة الفجر، أما وقت الإفطار فهو عند غروب الشمس ودخول وقت صلاة المغرب، وهذه مواقيت ثابتة بنص القرآن والسنة الصحيحة، وهي علة حكم الإمساك والإفطار.
لذلك لابد من تأصيل المسألة وبيان قاعدة فقهية مهمة جدا حتى يتضح الأمر أكثر، وكي لا يتكلم أحدنا جزافا وبلا دليل، والقاعدة تقول " الحكم يدور مع علته وجودا وعدما" وفي لفظ آخر " الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها" وفي لفظ آخر " الحكم ينتهي بانتهاء علته" ، وهنا في مسألتنا المتعلقة بوقت الإمساك والإفطار، الحكم هو " الإمساك أو الإفطار " والعلة هي دخول الوقت الشرعي المحدد أو خروجه، لأن العلة هي وصف ظاهر منضبط، وعلة الحكم تؤخذ من الدليل الشرعي.
وعلينا أن نفرق بين الحكمة من الحكم والتي هي علة العلة، وبين العلة التي ينبني مدار الحكم وجودا وعدما عليها، فعلى سبيل المثال القصر للمسافر العلة هنا مجرد السفر، بينما الحكمة هي المشقة التي قد ندركها وقد لا ندركها في الأحكام، وعليه ينبغي أن ننظر لحكم الصيام والامساك في رمضان لقضية دخول الوقت من عدمه بغض النظر عن ساعات النهار أو الليل.
إذا يقال للمسلمين عموما المتواجدين في تلك الدول التي فيها فارق بين ساعات النهار والليل، إن الله عز وجل قد بين الحكم الشرعي في ذلك، وقد أفتى بهذا أيضا جمع من العلماء الثقات في زماننا، وبينوا بأنه طالما هنالك على مدار الـ ( 24 ساعة ) يوجد ليل ونهار بغض النظر عن عدد ساعات النهار أو الليل فإنه ينبغي الالتزام بوقت الصيام الشرعي بحسب ما ورد في النصوص.
وقد سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة عن الصيام في بعض الدول الاسكندنافية حيث يكون النهار أطول من الليل بكثير على مدار السنة ، حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط ، في حين يكون النهار واحد وعشرين ساعة ، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في الشتاء فإن المسلمين فيها يصومون مدة ثلاث ساعات فقط ، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه نظرًا لطول النهار .
فأجابت اللجنة :
قد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، وبين ابتداء الصيام وانتهاءه ، فقال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، ولم يخصص هذا الحكم بِبَلَدٍ ولا بِنوع مِن الناس ، بل شَرَعه شَرْعًا عاما ، وهؤلاء المسئول عنهم داخلون في هذا العموم ، والله جل وعلا لطيف بعباده شرع لهم من طرق اليسر والسهولة ما يساعدهم على فعل ما وجب عليهم ، فَشَرَع للمسافر والمريض - مثلا- الفطر في رمضان لدفع المشقة عنهما ، قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية ، فمن شَهِد رَمَضان مِن الْمُكَلَّفِين وَجَب عليه أن يصوم ، سواء طال النهار أو قَصُر ، فإن عَجِز عن إتمام صيام يوم وخاف على نفسه الموت أو المرض جاز له أن يُفْطِر بما يَسُدّ رَمَقَه ويَدفع عنه الضرر ، ثم يُمْسِك بقية يومه ، وعليه قضاء ما أفطره في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام ا.هـ . [5]
وجاء في فتوى أخرى للجنة الدائمة:
أولًا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدًا في الصيف ويقصر في الشتاء وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا. لعموم قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (1) وقوله تعالى { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } ...
وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد وقد قال الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } .
ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء قال تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وقال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } ، وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
ثانيًا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفًا ولا تطلع فيها الشمس شتاء، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلًا وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال: « يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة » ... إلى آخره. [6]
من هنا يتبين لنا أن الأصل هو أداء الصيام ضمن الأوقات المحددة في جميع البلدان طالما هنالك تمايز بين الليل والنهار بعيدا عن الفارق بينها، لكن ينظر للحكم من جهة أخرى إذا صاحبه مشقة وعنت وتعب ونصب شديد ومرض، فإننا نذهب لقاعدة أخرى وهي ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فلينتبه لذلك.
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله : الإشكال في هذه البلاد ليس خاصًّا بالصوم، بل هو أيضًا شامل للصلاة ، ولكن إذا كانت الدولة لها نهار وليل فإنه يجب العمل بمقتضى ذلك ، سواء طال النهار أو قَصُر ، أما إذا كان ليس فيها ليل ولا نهار كالدوائر القطبية التي يكون فيها النهار ستة أشهر، أو الليل ستة أشهر، فهؤلاء يقدرون وقت صيامهم ووقت صلاتهم . اهـ .[7]
وفي سؤال ضمن موقع ( الإسلام سؤال وجواب ) نصه: أعيش قريباً من الدائرة القطبية الشمالية للكرة الأرضية حيث يكون طول النهار أربع ساعات ونصف فقط ماذا نفعل في رمضان بالنسبة للصيام ؟ .
الجواب: الحمد لله ..
إذا كان في بلدك ليل متميز ونهار متميز فإنّ عليك أن تصوم نهار أيام رمضان من الفجر إلى غروب الشمس سواء أطال النهار أم قصر ، وفقنا الله وإياك لطاعته وحسن عبادته .[8]
خلاصة المسألة:
1- على جميع المسلمين في تلك الدول التي تطول فيها ساعات النهار صيفا الالتزام بمواقيت الصلاة والصيام كما أمر ربنا تبارك وتعالى، وهذا هو الأصل الذي دلت عليه الأدلة الشرعية، طالما هنالك تمايز بين الليل والنهار بغض النظر عن الفارق الكبير بينهما.
2- الدول التي لا تغيب فيها الشمس فترة طويلة كأن تصل إلى ستة أشهر أو حتى عدة أيام لاسيما في الصيف، وكذلك التي لا تشرق فيها الشمس مدة طويلة لاسيما في الشتاء، فيقدر أهلها مواقيت الصلاة والصيام لأقرب دولة عليهم فيها شروق وغروب للشمس على مدار اليوم ( 24 ساعة ) حتى وإن اختلفت الساعات.
3- المسلمون المتواجدون في الدول التي فيها ساعات طويلة بالنهار ولم يستطيعوا أو يتمكنوا من إتمام الصلاة نتيجة المشقة أو المرض أو زيادته أو الضرر المؤكد، فيجوز لهم الأكل والشرب بقدر بسيط يمكنهم دفع الضرر والهلاك وإمساك بقية اليوم، والقضاء لهذه الأيام في أي وقت من العام يستطيعون به ذلك.
4- بامكان المسلمين المتواجدين في تلك الدول الانتقال بحسب الظرف والحال إلى دول أخرى تكون فيها ساعات أقل في النهار بشهر رمضان، لاسيما الدول العربية والإسلامية الأخرى، بل قد يكون هذا أنفع للمسلم في مثل هذا الشهر.
5- على جميع المسلمين الذين اضطرتهم الظروف والأحوال للمعيشة في تلك الدول؛ الصبر والثبات واحتساب الأجر المضاعف من الله عز وجل، وبذل ما في وسعهم للانتقال إلى بيئات إسلامية أو عربية ضررها أقل وأوقاتها معتدلة، إذا زالت الضرورة وانتفت الموانع ووجدت البيئة المناسبة، لأن أصل تواجد المسلم هناك للضرورة وليس للدوام كما نصت الشريعة على ذلك، وإذا انتفت الضرورة زال الحكم.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، ويعيننا فيه على الصيام والقيام وقراءة القرآن، ويحفظنا من كل سوء ويثبت إخواننا ويصبرهم على ابتلاءاتهم، وأن يعيده علينا سنوات عديدة ومواسم جديدة، وأن يرزقنا حسن العمل والصدق والإخلاص والاستقامة.
وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أيمن الشعبان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرفنا بالقرآن، واختصنا بشهر رمضان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وبعد:
في مثل هذه الأيام ونحن نقترب من شهر الخير والبركة والتوبة والصبر والقرآن والعطاء والجهاد والحسنات، يستعد المسلمون لاستقباله ضيفا عزيزا وزائرا كريما، وكلٌ بحسب فهمه وإدراكه لحقيقة هذا الشهر، والفائز من اغتنم أوقاته بالطاعات، وترك الدنيا وما فيها من ملذات وملهيات.
ولما كان الصيام من أركان ديننا العظيم، الذي ينبغي علينا إتقانه وتأديته على الوجه الصحيح وبشكل تام، فقد توارد إلينا استفهام واستفسار من بعض الأخوة الأعزاء الحريصين على دينهم، والمتواجدين في بعض الدول الأوربية وتحديدا بالدول الاسكندنافية، حيث أرسل إلينا أحدهم من فنلندا وآخر من السويد مطالبين بتوضيح الحكم الشرعي لمدة الصيام هناك لأن النهار طويل جدا قد يصل – لاسيما في هذه الأيام – إلى 21 ساعة ، فما هو الحكم في ذلك؟ وكيف يصنع المسلمون هناك في مثل هذه الحالات؟
نقول وبالله نستعين إن الله تبارك وتعالى لم يتركنا هكذا من غير بيان، بل بين لنا كل ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، قال تعالى } وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ {[1] ، في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جلية [2].
ومن الأشياء التي بينها ربنا تبارك وتعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام؛ وقت الإمساك عن الطعام وسائر المفطرات في الصيام، وكذلك وقت الإفطار، قال تعالى } وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ { [3]، { وَكُلُواْ واشربوا } الليل كله { حتى يَتَبَيَّنَ } أي يظهر { لَكُمُ الخيط الابيض } وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره [4].
لذلك فإن وقت بداية الإمساك عن سائر المفطرات والبدء بالصيام هو طلوع الفجر الصادق ودخول وقت صلاة الفجر، أما وقت الإفطار فهو عند غروب الشمس ودخول وقت صلاة المغرب، وهذه مواقيت ثابتة بنص القرآن والسنة الصحيحة، وهي علة حكم الإمساك والإفطار.
لذلك لابد من تأصيل المسألة وبيان قاعدة فقهية مهمة جدا حتى يتضح الأمر أكثر، وكي لا يتكلم أحدنا جزافا وبلا دليل، والقاعدة تقول " الحكم يدور مع علته وجودا وعدما" وفي لفظ آخر " الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها" وفي لفظ آخر " الحكم ينتهي بانتهاء علته" ، وهنا في مسألتنا المتعلقة بوقت الإمساك والإفطار، الحكم هو " الإمساك أو الإفطار " والعلة هي دخول الوقت الشرعي المحدد أو خروجه، لأن العلة هي وصف ظاهر منضبط، وعلة الحكم تؤخذ من الدليل الشرعي.
وعلينا أن نفرق بين الحكمة من الحكم والتي هي علة العلة، وبين العلة التي ينبني مدار الحكم وجودا وعدما عليها، فعلى سبيل المثال القصر للمسافر العلة هنا مجرد السفر، بينما الحكمة هي المشقة التي قد ندركها وقد لا ندركها في الأحكام، وعليه ينبغي أن ننظر لحكم الصيام والامساك في رمضان لقضية دخول الوقت من عدمه بغض النظر عن ساعات النهار أو الليل.
إذا يقال للمسلمين عموما المتواجدين في تلك الدول التي فيها فارق بين ساعات النهار والليل، إن الله عز وجل قد بين الحكم الشرعي في ذلك، وقد أفتى بهذا أيضا جمع من العلماء الثقات في زماننا، وبينوا بأنه طالما هنالك على مدار الـ ( 24 ساعة ) يوجد ليل ونهار بغض النظر عن عدد ساعات النهار أو الليل فإنه ينبغي الالتزام بوقت الصيام الشرعي بحسب ما ورد في النصوص.
وقد سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة عن الصيام في بعض الدول الاسكندنافية حيث يكون النهار أطول من الليل بكثير على مدار السنة ، حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط ، في حين يكون النهار واحد وعشرين ساعة ، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في الشتاء فإن المسلمين فيها يصومون مدة ثلاث ساعات فقط ، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه نظرًا لطول النهار .
فأجابت اللجنة :
قد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام ، فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، وبين ابتداء الصيام وانتهاءه ، فقال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، ولم يخصص هذا الحكم بِبَلَدٍ ولا بِنوع مِن الناس ، بل شَرَعه شَرْعًا عاما ، وهؤلاء المسئول عنهم داخلون في هذا العموم ، والله جل وعلا لطيف بعباده شرع لهم من طرق اليسر والسهولة ما يساعدهم على فعل ما وجب عليهم ، فَشَرَع للمسافر والمريض - مثلا- الفطر في رمضان لدفع المشقة عنهما ، قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية ، فمن شَهِد رَمَضان مِن الْمُكَلَّفِين وَجَب عليه أن يصوم ، سواء طال النهار أو قَصُر ، فإن عَجِز عن إتمام صيام يوم وخاف على نفسه الموت أو المرض جاز له أن يُفْطِر بما يَسُدّ رَمَقَه ويَدفع عنه الضرر ، ثم يُمْسِك بقية يومه ، وعليه قضاء ما أفطره في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام ا.هـ . [5]
وجاء في فتوى أخرى للجنة الدائمة:
أولًا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدًا في الصيف ويقصر في الشتاء وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا. لعموم قوله تعالى { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (1) وقوله تعالى { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } ...
وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد وقد قال الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } .
ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء قال تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وقال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } ، وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
ثانيًا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفًا ولا تطلع فيها الشمس شتاء، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلًا وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال: « يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة » ... إلى آخره. [6]
من هنا يتبين لنا أن الأصل هو أداء الصيام ضمن الأوقات المحددة في جميع البلدان طالما هنالك تمايز بين الليل والنهار بعيدا عن الفارق بينها، لكن ينظر للحكم من جهة أخرى إذا صاحبه مشقة وعنت وتعب ونصب شديد ومرض، فإننا نذهب لقاعدة أخرى وهي ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فلينتبه لذلك.
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله : الإشكال في هذه البلاد ليس خاصًّا بالصوم، بل هو أيضًا شامل للصلاة ، ولكن إذا كانت الدولة لها نهار وليل فإنه يجب العمل بمقتضى ذلك ، سواء طال النهار أو قَصُر ، أما إذا كان ليس فيها ليل ولا نهار كالدوائر القطبية التي يكون فيها النهار ستة أشهر، أو الليل ستة أشهر، فهؤلاء يقدرون وقت صيامهم ووقت صلاتهم . اهـ .[7]
وفي سؤال ضمن موقع ( الإسلام سؤال وجواب ) نصه: أعيش قريباً من الدائرة القطبية الشمالية للكرة الأرضية حيث يكون طول النهار أربع ساعات ونصف فقط ماذا نفعل في رمضان بالنسبة للصيام ؟ .
الجواب: الحمد لله ..
إذا كان في بلدك ليل متميز ونهار متميز فإنّ عليك أن تصوم نهار أيام رمضان من الفجر إلى غروب الشمس سواء أطال النهار أم قصر ، وفقنا الله وإياك لطاعته وحسن عبادته .[8]
خلاصة المسألة:
1- على جميع المسلمين في تلك الدول التي تطول فيها ساعات النهار صيفا الالتزام بمواقيت الصلاة والصيام كما أمر ربنا تبارك وتعالى، وهذا هو الأصل الذي دلت عليه الأدلة الشرعية، طالما هنالك تمايز بين الليل والنهار بغض النظر عن الفارق الكبير بينهما.
2- الدول التي لا تغيب فيها الشمس فترة طويلة كأن تصل إلى ستة أشهر أو حتى عدة أيام لاسيما في الصيف، وكذلك التي لا تشرق فيها الشمس مدة طويلة لاسيما في الشتاء، فيقدر أهلها مواقيت الصلاة والصيام لأقرب دولة عليهم فيها شروق وغروب للشمس على مدار اليوم ( 24 ساعة ) حتى وإن اختلفت الساعات.
3- المسلمون المتواجدون في الدول التي فيها ساعات طويلة بالنهار ولم يستطيعوا أو يتمكنوا من إتمام الصلاة نتيجة المشقة أو المرض أو زيادته أو الضرر المؤكد، فيجوز لهم الأكل والشرب بقدر بسيط يمكنهم دفع الضرر والهلاك وإمساك بقية اليوم، والقضاء لهذه الأيام في أي وقت من العام يستطيعون به ذلك.
4- بامكان المسلمين المتواجدين في تلك الدول الانتقال بحسب الظرف والحال إلى دول أخرى تكون فيها ساعات أقل في النهار بشهر رمضان، لاسيما الدول العربية والإسلامية الأخرى، بل قد يكون هذا أنفع للمسلم في مثل هذا الشهر.
5- على جميع المسلمين الذين اضطرتهم الظروف والأحوال للمعيشة في تلك الدول؛ الصبر والثبات واحتساب الأجر المضاعف من الله عز وجل، وبذل ما في وسعهم للانتقال إلى بيئات إسلامية أو عربية ضررها أقل وأوقاتها معتدلة، إذا زالت الضرورة وانتفت الموانع ووجدت البيئة المناسبة، لأن أصل تواجد المسلم هناك للضرورة وليس للدوام كما نصت الشريعة على ذلك، وإذا انتفت الضرورة زال الحكم.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، ويعيننا فيه على الصيام والقيام وقراءة القرآن، ويحفظنا من كل سوء ويثبت إخواننا ويصبرهم على ابتلاءاتهم، وأن يعيده علينا سنوات عديدة ومواسم جديدة، وأن يرزقنا حسن العمل والصدق والإخلاص والاستقامة.
وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.